بيد أن "صدمة الساحل" التي تكشّفت عن فعل منظم، يهدف لفصل الساحل عن العمق والجبل والبادية، توطئة لطلب الحماية ابتداءً، وربما تحويله إلى قاعدة ارتكاز للانقضاض على النظام الجديد في نهاية المطاف، وما رافق ذلك وأعقبه من وقائع دموية مروّعة، أخذت مختلف الكيانات والمكونات على حين غرة، ودفعتها للتراجع خطوة أو خطوتين للوراء، وليس صدفة أبداً، أن يأتي إنجاز "ملف السويداء" بعد ساعات قلائل من التوقيع على اتفاق الشرع – عبدي، وبعد يومين فقط من عودة الهدوء "النسبي" إلى منطقة الساحل.
تحمل هذه التطورات معاني مختلفة، أهمها أن مخطط التقسيم، قد خسر جولة، وإن كان لم يخسر الحرب بعد، فالاتفاقات العمومية التي أبرمتها الحكومة السورية ما زالت غامضة، وغموضها يعكس حالة القلق والخوف من المجهول التي اجتاحت الأطراف جميعها، أكثر مما يعكس حالة من التوافق والانسجام الوطنيين...أما مالاتها فستقررها تطورات المرحلة القادمة.
وأحسب أن ما شهدته سوريا من أحداث جسام، كان يمكن تفاديها لو أن "الإدارة الجديدة"، أحجمت عن إعادة انتاج الخطأ العراقي القاتل: حل الجيش وتسريح الأجهزة الأمنية، وترك مئات ألوف العناصر والمسلحين المدربين، نهباً للبطالة والضياع...حل الجيش ترك فراغاً ملأته من دون منازع، قوى محلية، طائفية وجهوية ومذهبية، ودفع بمنظومة الدفاع والأمن حديثة التشكل، للاستنجاد بـ"القوى الرديفة"، وبعضها لا ينتمي لسوريا والسوريين، للتدخل في معارك الساحل، إذ بات معروفاً أن هذه القوى بالذات، هي من قارف الفصول الأكثر دموية في مسلسل القتل العشوائي و"القتل على الهوية".
على أية حال، فإن الوقت لم يفت بعد، والفرصة ما زالت متاحة، أقله لاستدعاء وحدات وقطاعات من الجيش للعودة إلى ثكناتها، وإخضاع قادتها للفحص والتقييم، فمن كان متورطاً منهم بالدم السوري، تجري محاسبته وفقاً لقواعد "العدالة الانتقالية" التي تشكلت لها لجنة خاصة بعد مؤتمر الحوار، ومن ثبتت براءته وحسن سيره وسلوكه، أنيطت به مهام أمنية ودفاعية كما يليق بدولة تدلف عتبات انتقال سياسي هو الأخطر والأصعب في تاريخها المعاصر .... أي جيش ذاك، الذي سيتمخض عن "حاصل جمع" مليشيات بمرجعيات عقائدية ومذهبية مغرقة في "ذاتيتها"، وكيف يمكن أن يكون وطنياً، وهو الذي يتحول إلى "فيدرالية عسكرية – أمنية"، كما في حالة السويداء – وربما مع قسد - التي لم تتظهّر جميع فصولها بعد.
أياً يكن من أمر، وبالرغم مما يحيط بالتسويات بين دمشق وكل من السويداء والقامشلي من غموض، فإن ما حصل بحد ذاته، يعد خطوة إلى الأمام، تحول على الأقل، دون بلوغ نقطة "اللاعودة" في العلاقة بين كيانات ومكونات الشعب السوري، حتى وإن لم تُبدد بالكامل، سنوات من العيش في جزر منفصلة بعضها عن بعضها الآخر، ومخاوف خبيئة من نظام جديد، له تاريخ قديم في "السلفية الجهادية"، بما فاضت به من نزعات "تكفيرية" و"إقصائية".
وهي خطوة في الاتجاه الصحيح، بالنظر لأنها تعد لطمة لتيارات "متأسرلة" بدأت تطل برأسها القبيح، في السويداء وشرق الفرات، وبدرجة أقل من الوضوح من الساحل السوري، تيارات تريد الاحتماء بإسرائيل والاستقواء بها على "الشركاء في الوطن"، وقد أخذت تبوح بما في جوفها بكل صلف ووقاحة، ورددت صدى بوحها، جهات وشخصيات في كل من لبنان والعراق، استمرأت مدّ اليد لإسرائيل، ولا تجد ضيراً في الاستجابة لمندرجات "حلف الأقليات" الذي بشّر به جدعون ساعر، وأركان المؤسسة السياسية والأمنية في تل أبيب.
هذه التيارات، ما زالت موجودة، ولديها "شرعيات محلية" مستمدة من "غيرتها على مصالح الطوائف والأقوام"، والتعامل معها، لا يكون بالتهوين من شأنها ولا بالتهويل من قدراتها، ولن تستقيم العلاقات بين مختلف مكونات سوريا وكياناتها، لن تعود سوريا واحدة موحدة، والشعب السوري واحد"، ما لم يجر استئصال نفوذ وتأثير هذه التيارات وعزل رموزها وتعزيرهم.
وحسناً فعلت دمشق، تحت الإدارة الجديدة، إذ أظهرت قدراً عالياً من المرونة، غير مألوف في تجارب الحكم في سوريا، ولا في تجربة "السلفية الجهادية"، حين اعترفت بالانتهاكات واعتذرت عنها وسارعت إلى بث رسائل الطمأنينة ووعدت بالتحقق والتحقيق والتقصي، توطئة للمساءلة والمحاسبة، وأجرت حواراً أفقياً وعامودياً مع مختلف الفاعلين في المناطق الخارجة عن سيطرة الدولة السورية ... والمؤكد أن الشرع فعل ما فعل، تحت ضغط الصور المروّعة المبثوثة من الساحل، وما استدعته من مخاوف انقلاب الإقليم والمجتمع الدولي على العهد الجديد، والمقامرة بخسارة كل وعود الانفتاح وتعهدات رفع العقوبات، والاعتراف بشرعية الحكم والحاكم.
والشيء ذاته، ينطبق بدرجة أو أخرى، على المكون الكردي الذي مثّله مظلوم عبدي، والذي جاء إلى دمشق، وفي ذهنه أن اللحظة قد تكون مناسبة للحصول على "تسوية" أقرب إلى وجهة نظر الكرد، بالحفاظ على هيكلية كردية -شيه مستقلة- داخل مؤسسات الأمن والجيش...لا نعرف إن حصل الرجل على ما جاء من أجله، فالبيان غامض ولا تفاصيل فيه...ولكن في المقابل، فإن الرجل جاء إلى دمشق، ونداء عبد الله أوجلان بإلقاء السلاح والكف عن المطالبة بالفيدرالية والتسيير الذاتي يطّن في أذنيه، وفي الخلفية شبح النفوذ التركي المتزايد في الإقليم، ليس بفعل انقلاب الثامن من ديسمبر فحسب، بل ونتيجة لزيادة الطلب الأمريكي- الأوروبي على الدور التركي في سوريا والشرق الأوسط والفضاء الأمني الأوروبي .... وفي الخلفية ثالثاً، إدارة ترامب وسعيها القديم المتجدد، للانسحاب من تركيا، حتى وإن بثمن، ترك حلفائها الأكراد عُراةً في عَراء.
الوضع في السويداء أكثر غموضاً، وأقل مدعاة للطمأنينة، هنا يبدو "العامل الإسرائيلي" أكثر حضوراً، وتبدو معه المصالح الإسرائيلية أكثر التصاقاً بنظرية الأمن القومي، وتبدو انقسامات السويداء، جزءاً من انقسام أوسع، يضرب "جبل العرب" وفلسطين ولبنان كذلك، انقسام بين خياري "الأسرلة" و"العروبة"، ومن آياته السجال الدائر بالأقوال والأفعال، بين وليد جنبلاط وموفق طريف.
وعوداً على بدء، إلى الساحل السوري، الذي لم يمر بتجربة "الدويلة" كما هي الحال في شرق الفرات وجنوب سوريا، ذلك أن الساحل ظلّ طيلة العقود الماضية، هو "الدولة" السورية، أو في مركز القلب منها، وبعد انهيار نظام الأسد، وجد نفسه مكشوف الظهر، وصارت مفردة "الفلول" مرادفة للقسم الأكبر من أبنائه وبناته، المنخرطين بغالبيتهم العظمى في مؤسسات الدولة القديمة، الأمنية والعسكرية منها بالذات...هذا الوضع، جعل منهم هدفاً للانتقال وضحية له، وهو ما أدى، ويمكن أن يؤدي إلى تكرار سيناريو الأيام الفائتة، ما لم تقدم دمشق، على تغيير مقاربتها جذرياً، وما لم تتعمق العملية السياسية وتأخذ طابعاً جذرياً، لا شكلياً كما هو حاصلٌ حتى الآن، وما لم تدرك الإدارة الجديدة، إن سوريا لا تحكم بمكون على حساب آخر، ولا بعقائد إقصائية متطرفة.
الاحتفالية بتجاوز "قطوع الساحل"، وإبرام اتفاقات وتفاهمات مع السويداء والقامشلي، لا تعني أن سيف التقسيم قد رفع عن عنق سوريا، ولا أن البلاد قد دخلت في مرحلة الأمن والنماء ... "صدمة الساحل"، وما أعقبها من تداعيات، يمكن أن تحفز مسارات الانتقال وتعظم فرص الوحدة وتبعد شبح التقسيم، لكن مشوار سوريا للتعافي ما زال مديداً ومريراً، ودونه عقبات ومصالح، محلية وإقليمية ودولية، تجعل المهمة أشد صعوبة وأكثر تعقيداً.
أخبار متعلقة :