نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
الحلقة الثانية «فقهاء مروا من هنا»: الشافعي.. إمام حكم القلوب والعقول - شبكة أطلس سبورت, اليوم السبت 8 مارس 2025 12:16 مساءً
غزة كانت المولد.. والنشأة في مكة.. ومصر كانت المستقر والمستودع لمذهبه بوجود بيئة علمية خصبة احتضنت اجتهاداته
الإمام محمد بن إدريس جمع بين التأليف الفقهي والنثر الأدبي والشعر البليغ فكان عالمًا موسوعيًا لم يقف عند حدود الفقه
انقسم المسلمون قبله بين أهل الحديث والرأي وكان هو الجسر الذي جمع بينهما.. وقال عنه أحمد بن حنبل: الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس
في سجل التاريخ، تظل بعض الأسماء منارات تهتدي بها الأجيال، ويبقى أثرها حاضرًا رغم مرور القرون، ومن بين هؤلاء رجل لم يكن مجرد فقيه يُستفتى في الأحكام، بل كان عقلًا مفكرًا وروحًا مجتهدة، جمع بين الفقه والتفسير، وبين الحديث والحكمة، وبين الورع والعدل، ولم يكن العلم عنده مجرد رواية تحفظ، بل فكرٌ يُمحّص، وموازنة دقيقة بين نصوص الشريعة وضرورات الواقع، إنه الإمام الشافعى.
وُلِد في غزة، ونشأ في مكة، وتنقّل بين الحجاز والعراق ومصر، باحثًا عن المعرفة، حاملاً معه خلاصة ما تعلمه من شيوخه، وصائغًا منهجًا فريدًا يجمع بين مدرستي الحديث والرأي، كان رجلًا نحيل الجسد، قوي الحجة، حاد الذكاء، سريع البديهة، لا يُسأل عن مسألة إلا وأجاب عنها بعلم راسخ ومنطق متين. استوعب طريقة أهل العراق في الاجتهاد العقلي، ونهج أهل الحجاز في التمسك بالأثر، فصاغ مدرسة وسطية توازن بينهما، تاركًا بصمته في علم أصول الفقه، ذلك العلم الذي وضع له أسسه الأولى وأرسى قواعده في كتابه الخالد "الرسالة".
كان قاضيًا على منصة القضاء، حكم القلوب والعقول، تُرفع إليه المسائل فيحكم فيها بالعدل، لم يكن سلطانًا، لكنه ملك قلوب طلابه بسمو خلقه وعلو همته، واليوم، بعد أكثر من اثني عشر قرنًا، لا يزال صوته يتردد في آفاق العلم، وتظل سيرته شاهدًا على رجل صنع مجده بالعلم، وأضاء درب الأمة بالحكمة والاجتهاد.
وفي زمنٍ كثرت فيه الفتن وتشعبت المسالك، يبقى ذكر الإمام الشافعي شاهدًا على أن العلم الحق لا يزول أثره، بل يمتد عبر العصور هاديًا وموجهًا، يعيش بيننا بفكره، ويجسد مبادئه في سلوكه، فكان التواضع سمته، والإنصاف نهجه، والرحمة ديدنه، حمل لواء الاجتهاد، ولم يقف عند حدود ما تلقاه، بل نقّح وأضاف، ليترك للأمة ميراثًا فقهيًا خالدًا، لم يكن حبيس الكتب، بل ظل منهجًا حيًّا يقتدي به الساعون إلى فهم الدين بعقل واعٍ وقلب مخلص.
من هو الإمام؟
هو الإمام محمد بن إدريس الشافعي القرشي، وُلِد في شهر رجب عام 150هـ، في مدينة غزة، في بيت امتزج فيه النسب الرفيع بالبساطة والفقر، فكان من نسل قريش، تلك القبيلة التي خرج منها النبي محمد ﷺ، وقيل عنه إنه "عالم قريش الذي يملأ الأرض علمًا"، لكن الشرف بالنسب لم يكن يومًا كافيًا ليصنع العظمة، بل كان اجتهاده وسعيه المتواصل وراء المعرفة هما ما جعلاه إمامًا تتوارث الأجيال اسمه وفضله.
نشأ الشافعي يتيمًا في مكة، فذاق منذ صغره شظف العيش، لكنه وجد في العلم عزاءً وملاذًا، فحفظ القرآن في السابعة، وأتم حفظ "الموطأ" في العاشرة، وسرعان ما بزغ نجمه حتى أُذِن له بالإفتاء ولم يبلغ العشرين بعد، ولم يكن في يده الورق ليدوّن ما يسمع، فكان يكتب الحديث على الخزف والجلود، ويذهب إلى دواوين الدولة ليجمع الأوراق المستعملة ويكتب على ظهرها.
وبذاكرة لا تخطئ، لم يكتفِ بما تلقاه في مكة، فشد الرحال إلى المدينة المنورة، حيث لازم الإمام مالك بن أنس، فنهل من علمه وأدرك دقّة مذهبه، ثم اتجه إلى اليمن، وعمل بها زمنًا، لكنه لم يكن رجلًا يقنع بالمقام، بل كان دائم الترحال في سبيل العلم، انتقل إلى بغداد عام 184هـ، وهناك تتلمذ على يد القاضي محمد بن الحسن الشيباني، فجمع بين مدرستي الحجاز والعراق، ليصوغ فقهًا جديدًا يمزج بين الرأي والأثر، بين العقل والنقل، وبين الدليل والاجتهاد.
عاد إلى مكة، حيث قضى تسع سنوات يعلّم ويفتي، ثم عاود السفر إلى بغداد للمرة الثانية، وهناك وضع كتابه الخالد "الرسالة"، الذي وضع به أسس علم أصول الفقه، ليكون أول من نظّر لهذا العلم وجعل له قواعد واضحة.
مدرسة خالدة ومذهب يسير
لم يكن المذهب الشافعي مجرد اجتهاد فقهي عابر، بل كان مدرسة متكاملة جمعت بين أصول النقل ومعايير العقل، وأرست قواعد فقهية تجمع بين الدقة والمرونة، فأتاحت للناس يسر الفهم وسهولة التطبيق، وذلك لأنه تميز بعقلية جعلته يدرك منذ وقت مبكر أهمية الجمع بين مذاهب الفقه المختلفة، فلم يقف عند حدود مذهب أهل الحديث، ولم يغرق في اجتهادات أهل الرأي، بل خط لنفسه طريقًا وسطًا، يتعامل مع النصوص بصرامة العالم المتثبت، ويستخدم العقل بمرونة المجتهد المتبصر، فأسس مذهبًا جامعًا بين ثبات الأصول ومرونة الفروع، بين الاجتهاد المنضبط والتيسير غير المخل.
ولم يكن هذا النهج الفقهي مجرد اجتهادات متناثرة، بل صاغ الشافعي منهجًا علميًا متكاملًا في كتابه الشهير "الرسالة"، الذي يُعد أول كتاب في أصول الفقه، وفيه وضع ضوابط الاجتهاد وقواعد الاستنباط، ليحفظ الفقه من الفوضى، وليجعل لكل مسألة ميزانًا دقيقًا بين النصوص الشرعية والمصالح العامة، ولم يكتفِ بهذا، بل صنّف كتابه "الأم"، الذي جمع فيه خلاصة فقهه، ثم عاد ونقّحه بعد استقراره في مصر، حيث قام بمراجعة بعض اجتهاداته، وأعاد النظر في بعض المسائل وفق ما استجد له من معرفة بواقع الناس وأحوالهم، مما يدل على مرونة مذهبه وقدرته على التطور مع تبدل الظروف.
وبرغم أن الشافعي رحل بين مكة والمدينة والعراق واليمن، إلا أن مذهبه لم يجد الاستقرار إلا في مصر التي دخلها في عام 199 هجرية، حيث وجد بيئة علمية خصبة احتضنت اجتهاداته، وعلماء نهلوا من علومه، وعامة تقبلوا فقهه الواسع القائم على التيسير. وفي مسجد عمرو بن العاص، جلس الشافعي مفتيًا ومعلمًا، متأملًا في اختلاف الناس، مستنبطًا الأحكام التي تحفظ مصالح العباد، دون أن يتنافى ذلك مع مقاصد الشريعة، وهنا، برزت رؤيته التي جمعت بين النصوص والأعراف، والقياس والاستنباط، والمصلحة والفقه، فصار مذهبه مدرسة قائمة على الاجتهاد المتجدد، لا على الجمود والتقليد.
وما إن ترسخ المذهب في مصر، حتى بدأ يتمدد إلى بقية أنحاء العالم الإسلامي، فظهر في الشام والعراق وخراسان واليمن وفارس والهند وما وراء النهر، ثم انتشر في مناطق أفريقيا والقوقاز وتركستان الشرقية وجنوب شرق آسيا، حتى صار أحد أكثر المذاهب الفقهية حضورًا وتأثيرًا، ولم يكن هذا الانتشار مجرد توسع جغرافي، بل كان دليلًا على حيوية المذهب، وقدرته على التعامل مع التنوع الثقافي والاختلاف البيئي، فلم يكن مذهبًا محصورًا ببيئة واحدة، بل صار مذهب الشعوب المختلفة، يخاطبهم بلغتهم، ويتكيف مع حياتهم، دون أن يفقد جوهره أو ينحرف عن أصوله.
كل هذا لم يكن إذا اقتصر في طلب العلم على مدرسة فقهية واحدة أو بيئة محددة، بل تنقل بين الأمصار وتلقى العلم على يد شيوخٍ تباينت مشاربهم وتعددت مناهجهم، ورغم اختلاف آرائهم، أخذ عنهم ما رآه صائبًا، وردَّ ما لم يجد له سبيلاً إلى القبول، تنوعت مصادر معرفته، فجمع بين فقه الحجاز، وفقه العراق، وفقه الشام ومصر، مما أكسبه نظرة شمولية جعلت منه إمامًا مجددًا.
في مكة، نهل من علم كبار علمائها، فدرس على يد سفيان بن عيينة الذي كان بحراً في الحديث، ومسلم بن خالد الزنجي مفتي مكة، وسعيد بن سالم القداح، أما في المدينة، فقد جلس إلى الإمام مالك بن أنس وأخذ عنه الموطأ، كما تعلم من إبراهيم بن سعد الزهري، وعبد العزيز الدراوردي، وغيره، وفي اليمن، تتلمذ على يد مطرف بن مازن الصنعاني، وهشام بن يوسف قاضي صنعاء، وعمرو بن أبي سلمة التنيسي صاحب الأوزاعي، ويحيى بن حسان التنيسي صاحب الليث بن سعد، أما في العراق، فقد تعلم على يد محمد بن الحسن الشيباني، تلميذ أبي حنيفة، ووكيع بن الجراح الكوفي، وحماد بن أسامة الكوفي، وإسماعيل بن إبراهيم البصري، وعبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي.
هذه الرحلات العلمية جعلت الشافعي يحيط بفقه المذاهب المختلفة، فجمع بين أصول مدرسة أهل الحديث في الحجاز، ومدرسة الرأي في العراق، وأصول الليث بن سعد في مصر، كما درس مذاهب الأوزاعي والشيعة وغيرهم، ولم يتحرج من الاطلاع على آراء المعتزلة رغم نقده لعلم الكلام. بهذا التنوع العلمي، أسس منهجه الفقهي المتوازن، وصار فقهه نتاجًا لتلاقح الأفكار والمدارس، مما منحه قدرة فريدة على الاجتهاد والتجديد.
مؤلفًا وشاعرًا
امتاز الإمام الشافعي بجمعه بين التأليف الفقهي والنثر الأدبي والشعر البليغ، فكان عالمًا موسوعيًا، لم يقف عند حدود الفقه بل امتد عطاؤه إلى اللغة والأدب، ولم تكن مؤلفاته مجرد كتب علمية جافة، بل جاءت بأسلوب سلس يجمع بين قوة الاستدلال وجمال البيان، فصارت نموذجًا للفصاحة الذي يتقن نقل علمه بوضوح وسهولة، دون أن يفقد العمق والدقة.
كتب في أصول الفقه، وأرسى قواعد الاستنباط الشرعي، فكان كتابه "الرسالة" أول تأصيل علمي في علم أصول الفقه، وضع فيه قواعد الاجتهاد وضبط الأدلة الشرعية، ثم أكمل ذلك بكتاب "جماع العلم" الذي دافع فيه عن حجية السنة النبوية، كما صنّف كتاب "إبطال الاستحسان" لتوضيح منهجه في الاجتهاد، وكتب في تفسير الأحكام بكتاب "أحكام القرآن"، ثم جمع فروع الفقه جميعها في كتابه الكبير "الأم"، الذي صار مرجعًا شاملًا لمذهبه، وضمّن فيه مسائل الطهارة والصلاة والزكاة والحج والنكاح والطلاق وسائر أحكام العبادات والمعاملات.
ولم يكن الشافعي في تأليفه مجرد ناقل للآراء السابقة، بل كان مجتهدًا أصيلًا، أعاد النظر في كثير من المسائل، بل وضع مراجعات علمية لمذهبه نفسه، فدوّن "الرسالة القديمة" في بغداد، ثم عاد وكتب "الرسالة الجديدة" بعد أن استقر في مصر، حيث وجد بيئة علمية دفعته إلى إعادة النظر في بعض اجتهاداته، مما يدل على مرونة فكره واتساع رؤيته الشرعية، ولم يكن مقلدًا لأحد، بل جمع بين مدرسة أهل الحديث ومدرسة أهل الرأي، واستطاع أن يقدم مذهبًا متوازنًا يجمع بين الدليل الشرعي والنظر العقلي.
إلى جانب نبوغه في الفقه، كان شاعرًا فصيحًا وأديبًا مرهف الإحساس، فقد نشأ في مكة ثم ارتحل إلى البادية، ولازم قبيلة هذيل التي كانت من أفصح العرب، فتعلم لغتها وأتقن بيانها، حتى قال عنه اللغوي الشهير الأصمعي: "صححت أشعار هذيل على فتى من قريش يقال له محمد بن إدريس". ولم يكن شعره وسيلة للتكسب أو التملق، بل كان تعبيرًا عن فلسفته في الحياة، ومناجاة لخالقه، وحكمة تستلهم التجارب، فكان شعره سهل اللفظ، عميق المعنى، يفيض بالحكمة والنصيحة والتأمل في أحوال الناس. كتب عن الأخلاق والرضا بالقضاء والصبر على الأذى، فقال:
إذا شئتَ أن تحيا سليماً من الأذى .. ودينك موفورٌ وعرضك صينُ
لسانُك لا تذكرْ به عورةَ امرئٍ .. فكلُّك عوراتٌ وللناس ألسنُ
وعينُك إن أبدت إليك مَعايباً .. فصُنْها وقلْ يا عينُ للناس أعينُ
وعاشر بمعروفٍ وسامح من اعتدى .. ودافعْ ولكنْ بالتي هي أحسنُ
كتب عن قيمة العلم ومكانة الحديث النبوي، فقال:
كُلُّ العُلُومِ سِوَى القُرآنِ مَشْغَلَةٌ .. إِلَّا الحَديِثَ وَعِلْمَ الفِقْهِ فِي الدِّينِ
العِلْمُ مَا كَانَ فِيهِ قَالَ حَدَّثَنَا .. وَمَا سِوَى ذَاكَ وَسْوَاسُ الشَّيَاطِينِ
لم يكن شعره مجرد كلمات موزونة، بل كان خلاصة تجربة، ورسالة أخلاقية يوجهها للناس، فاشتهرت أبياته بين العلماء والعامة، حتى صارت بعض كلماته أمثالًا تتردد في المجالس، بقيت مؤلفاته مرجعًا للفقهاء، وبقي شعره مصدر إلهام للحكماء، فجمع بين دقة العالم وبلاغة الأديب، بين عمق الفقيه وسلاسة الشاعر، ليكون نموذجًا فريدًا للعالم المتكامل الذي يملك العلم والبيان معًا.
موسوعي بصفات فريدة
امتاز الإمام الشافعي بصفات شخصية جعلته منارة علمية وأخلاقية في زمانه، فلم يكن مجرد عالم بالفقه والأصول، بل كان نموذجًا للعالم المتكامل الذي جمع بين العلم والعمل، وبين التواضع والسخاء، وبين العبادة والزهد، وأوتي علم اللغة العربية، فتفقه في معانيها وأدرك أسرارها، حتى شهد له تلاميذه بأنه كان إذا فسر القرآن كأنه "شاهد التنزيل"، فكان فهمه للنصوص القرآنية والحديثية عميقًا، مستندًا إلى دراية واسعة بالناسخ والمنسوخ، ومعرفة دقيقة بأساليب العرب في الكلام.
ولم يكن علمه مقصورًا على الحفظ، بل اجتهد في وضع ضوابط القياس، ليكون ميزانًا دقيقًا في استخراج الأحكام، وهو الذي كان يرى أن العلم لا يقتصر على الفقه والحديث، بل يشمل اللغة والحساب وسائر المعارف التي تنضج العقل وتهذب النفس، وكان مجلسه العلمي نموذجًا فريدًا في تنوعه وتنظيمه، فبعد صلاة الصبح يجلس لأهل القرآن، فإذا طلعت الشمس انتقل إلى الحديث وشرحه، ثم يخصص وقتًا للفقه والمذاكرة، وحين يرتفع الضحى يجتمع إليه أهل اللغة والعروض والنحو والشعر، فلا يزالون في مجلسه حتى قرب انتصاف النهار.
هذه الدقة في تقسيم وقته بين العلوم المختلفة تعكس منهجيته الصارمة في طلب العلم وتعليمه، فلم يكن يغلق بابه أمام علم معين، بل جعل من حلقته مدرسة مفتوحة لكل طالبي المعرفة، ومع كثرة علمه، كان متواضعًا، فلم يكن يجادل خصومه رغبة في الانتصار، بل كان يقول: "ما ناظرت أحدًا فأحببت أن يخطئ"، ولم يكن يبخل بعلمه على أحد، حتى قال: "ما في قلبي من علم إلا وددت أنه عند كل أحد ولا يُنسب إليّ". لم يكن التواضع عنده مجرد كلمات، بل كان خلقًا عمليًا انعكس على حياته وسلوكه مع الناس.
كان الشافعي كريمًا، لا يبخل على طلابه وأصحابه، ومن ذلك ما حدث مع الربيع بن سليمان عندما أخبره أنه تزوج وأعطى زوجته ستة دنانير من مهرها البالغ ثلاثين دينارًا، فصعد الشافعي إلى داره وأرسل إليه أربعة وعشرين دينارًا ليكمل المهر، وهذا السخاء لم يكن مقترنًا بالغنى، بل كان يعبر عن نفس معطاءة ترى في المال وسيلة لا غاية، فلم يكن يتردد في مساعدة المحتاجين رغم قلة ذات يده.
لم يكن الشافعي عالمًا فحسب، بل كان رجل عبادة وزهد، فقد كان يختم القرآن في كل ليلة، وإذا جاء رمضان ضاعف الختمات حتى يبلغ ستين ختمة، ولم تكن عبادته شكلية، بل كانت مليئة بالخشوع والتضرع، فكان إذا قرأ آية رحمة سأل الله لنفسه وللمؤمنين جميعًا، وإذا مر بآية عذاب استعاذ بالله وسأل النجاة له ولسائر المسلمين، فكان قلبه ممتلئًا بين الرجاء والخوف، مستشعرًا ثقل الأمانة التي يحملها.
ولم يكن العلم عنده غاية مجردة، بل كان وسيلة لتهذيب النفس ورفع قيمة الإنسان، فكان يقول: "من تعلم القرآن عظمت قيمته، ومن كتب الحديث قويت حجته، ومن نظر في الفقه نبُل قدره، ومن نظر في اللغة رق طبعه، ومن نظر في الحساب جزل رأيه، ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه"، وكانت هذه الكلمات تلخيصًا لفلسفته في الحياة، حيث رأى أن العلم ليس مجرد معلومات، بل هو منظومة متكاملة تبني الإنسان وتجعله قادرًا على قيادة نفسه ومجتمعه بحكمة واتزان.
قالوا عن الإمام
لم يكن الشافعي مجرد عالم فقيه، بل كان شخصية فريدة جمعت بين العلم والخلق، بين الفصاحة والتواضع، بين العطاء والعبادة، فبقيت سيرته خالدة كنموذج للعالم الذي لم يكن علمه حاجزًا بينه وبين الناس، بل كان جسرًا يصل به إلى قلوبهم وعقولهم، وهذا لم يكن مجرد انطباع عام، بل حقيقة شهد لها كبار العلماء وأئمة الفقه في زمانه، حتى قال إسحاق بن راهويه: "أخذ أحمد بن حنبل بيدي وقال: تعال حتى أذهب بك إلى من لم تر عيناك مثله"، فذهب به إلى الشافعي، ليؤكد بذلك مكانته العلمية الفريدة.
وحين سُئل الإمام أحمد بن حنبل عن الشافعي، كان جوابه يحمل قدرًا كبيرًا من التقدير، إذ قال لابنه عبد الله: "يا بني، الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس، انظر هل لهذين من خلف أو منهما عوض؟" في إشارة إلى أن فقده سيكون خسارة لا تُعوض، ولم يكن أحمد وحده من يراه كذلك، فقد قال أيوب بن سويد: "ما ظننت أني أعيش حتى أرى مثل الشافعي"، مما يدل على فرادة الإمام بين معاصريه. ومن مواقف التقدير التي عكست مكانة الشافعي بين العلماء، ما رواه صالح بن أحمد بن حنبل حين قال: "ركب الشافعي حماره، فجعل أبي يمشي وهو يذاكره، فبلغ ذلك يحيى بن معين، فبعث إلى أبي في ذلك، فقال له الإمام أحمد: إنك لو كنت في الجانب الآخر من الحمار كان خيرًا لك"، في تعبير عن احترامه البالغ للإمام الشافعي.
أما سفيان بن عيينة، فقد بلغ به الإعجاب بالشافعي أن قال حين غُشي عليه بعد سماع حديث مؤثر: "إن كان قد مات محمد بن إدريس فقد مات أفضل أهل زمانه"، وهو تصريح يعكس مدى تأثيره العلمي والروحي، ولم يكن هذا مجرد رأي فردي، بل هو إجماع علمي، عبر عنه الإمام الرازي بقوله: "إن ثناء العلماء على الإمام الشافعي أكثر من أن يحيط به الحصر"، مؤكدًا أن الأمة كانت قبله منقسمة بين أهل الحديث وأهل الرأي، وكان الشافعي الجسر الذي جمع بينهما، فوضع الأسس التي جعلت الفقه أكثر تماسكًا ومنهجية.
توفي الإمام الشافعي رحمه الله تعالى رضي الله عنه بمصر ليلة الجمعة بعد أن صلّى العشاء، آخر ليلة من رجب سنة أربع ومائتين هجرية، ودفن بعد عصر الجمعة، وهو في الرابعة والخمسين من عمره. نام الشافعي على فراش الموت بعد ما اشتد به المرض، ودخل عليه تلميذه المزني ليقول له: كيف أصبحت؟ فقال الشافعي: أصبحت من الدنيا راحلاً، وللإخوان مفارقاً، ولكأس المنية شارباً، وعلى الله وارداً، ووالله لا أدري أتصير روحي إلى الجنة فأهنيها، أم إلى النار فأعزيها، وبكى الشافعي رضي الله عنه، ونظر إلى السماء وناجى ربه جل وعلا وقال:
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي.. جعلت الرجا مني لعفوك سلما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك.. ربي كان عفوك أعظما
ما زلت ذا عفوٍ عن العبد لم تزل.. تجود وتعفو منةً وتكرما
أخبار متعلقة :