1700 سنة على مجمع نيقيا: هويّة المسيح وأزمة الإيمان - شبكة أطلس سبورت

0 تعليق ارسل طباعة

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
1700 سنة على مجمع نيقيا: هويّة المسيح وأزمة الإيمان - شبكة أطلس سبورت, اليوم الثلاثاء 18 مارس 2025 11:14 مساءً

شبكة أطلس سبورت -  

فادي بو راشد
أستاذ في كلّية اللاهوت والعلوم البيبلية
الجامعة الأنطونيّة

 

"لا تسرقوا المسيح منّي". بهذه الكلمات البسيطة والمباشرة، يضعنا القديس أثناسيوس الإسكندريّ (295-373)، أمام إحدى أعمق مشكلات الكنيسة في القرن الرابع: من هو مسيح الكنيسة حقّاً؟ ما حقيقته النهائية؟ ولا مبالغة في القول، ان لا  أحد آخر في تاريخ الديانات كلّها، شُكّك في شخصه وطبيعته ودوره وعلاقته بالله والإنسان، كما شُكّك في يسوع الناصريّ. أهو ابن الله حقّاً؟ وبأي معنى هو ابنه؟ وإلى أي مدى تصل هذه البنوّة؟ لطالما أكّد العهد الجديد أن الله آبٌ وابنٌ وروحٌ قدس، وأن يسوعَ هو الله، وابن الله، والمُرسَل من لدن الآب ليخلّص العالم. ولم يكن من السهل فهم هذا كلّه. فمنذ أن مزّق قيافا ثيابه احتجاجاً على كلام يسوع، ستظلّ بنوّة الابن حجر عثرة لكثيرين حتّى انتهاء الأزمنة. وسيبقى من الصعب الاعتراف بها بغير كشف من الآب كما حصل في قيصرية فيلبس: طوبى لك يا سمعان بن يونا، فليس اللحم والدم من كشفا لك هذا، بل أبي الذي في السّموات. وبين قيافا وبطرس، هوّة عظيمة!
لقد شهدت أوائل القرن الرابع، أحداثاً كنسيّة وزمنيّة كبيرة. فبعد سلسلة دامية من الاضطهادات، تولّى قسطنطين زمام إمبراطورية الغرب سنة 312، وهاجم روما، وقضى على ماسنثيوس حاكمها بعدما رأى في حلمه علامة ًفي السماء كتب فوقها: "بهذه العلامة تنتصر". وبناء على تفسير حلمه هذا من أحد مستشاريه المسيحيين، ردّ قسطنطين انتصاره إلى المسيح، غير أنّه لم يتعمّد. في كلّ الأحوال، دخل روما منتصراً وأظهر تسامحاً كبيراً تجاه مسيحيّيها. أمّا بالنسبة إلى القسم الشرقي للإمبراطورية، فالاضطهادات استمرت على نحو متقطّع دفع قسطنطين إلى أن يدعو إمبراطورها ليسينيوس إلى ميلانو سنة 313، حيث اتفقا على إصدار رسائل إلى حكّام المقاطعات تقضي بحماية الأديان ومراعاتها، وهذا ما عُرف بمرسوم ميلانو الّذي أصدره ليسينيوس من نيقوميديا لاحقاً، ونصّ على حرّية الدين والمعتقد، بغية ترسيخ العدالة بين رعايا الإمبراطورية كلّها. لكن ليسينيوس لم يلتزم المرسوم المذكور، وبعد خلافات مع قسطنطين، هاجمه الأخير وهزمه نهائياً في معركة كريسبوليس سنة 324، ومن ثمّ نفاه وأمر بقتله بتهمة التآمر.
صار قسطنطين بعد قضائه على ليسينيوس سيد الإمبراطورية المُطلق، فحاول ضبطها وتمتين تماسكها. ورأى في المسيحيّة صورة نموذجية عن الوحدة في الإيمان، والتماسك في الأخلاق، والرُقيّ في التراتبية، في حين أنّ العادات الوثنيّة السائدة آنئذ، تميّزت بالفساد والميوعة والتقهقر. فشكّلت الكنيسة بالنسبة إليه تلك الرافعة التي يحتاج إليها لتشديد بُنية إمبراطوريته وتماسكها، فناصر المسيحية وتعاليمها، وعزّز مقامها ومكانتها. غير أن خطراً كبيراً كان يتحضّر شرقاّ، وهو ما عُرف بالبدعة الآريوسية التي قلّصت هويّة المسيح واختزلتها. كان آريوس كاهناً متمسّكاً بمفهوم التوحيد المطلق للعهد القديم، ونشأ على بعض أوجه الفكر اليوناني، وبخاصة الأفلاطونية المُحدثة السائدة في الإسكندرية آنذاك، والقائلة بتراتبية وجود الكائنات بدءاً من الله كعلّة أُولى غير قابلة للتجزئة، وصولاً إلى الكائنات والموجودات الأقل كمالاً. استخدم آريوس مفهوم التراتبية هذه وأسقطه على إيمانه المسيحي، جاعلاً من المسيح كائناً دون الله مرتبة، وناكراً بذلك ألوهيته الكاملة لئلّا تتعارض مع وحدانية الله فنصبح بالتالي أمام وجود إلهَين. وعليه، بدل أن يفهم آريوس حقيقة الابن وفق إيمان العهد الجديد، جمع بين توحيدية العهد القديم والأفلاطونية المُحدثة، فنتج من ذلك أن يسوع ليس ابن الله بالمعنى الكامل للكلمة، فالآب هو الله الأزليّ الذي لا مبتدأ له، بينما يسوع، هو كلمة (لوغوس) الآب المولود منه، بمعنى أنّه مخلوق، وكان زمان لم يكن فيه موجوداً، ولا يمكنه بالتالي أن يساويه في كمالاته ولا في أزليّة جوهره.
من هنا، يجب أن تُفهم بنوّة يسوع كنعمة خاصة أُعطيت له نظراً إلى الدور الذي سيؤدّيه كأداة في خلق الكائنات الأخرى، ولا شيء أكثر من ذلك. إن فهم بنوّة يسوع هذه وفق هذا الترسيم الفكري اليوناني بعيداً من إيمان الكنيسة وتقليدها، أوصل آريوس إلى إطاحة حقيقة يسوع الإلهية واعتباره مجرّد خليقة من عدم. سنة 318، عُقد سينودس في الإسكندرية دين فيه آريوس وسبعة كهنة آخرين من أتباعه، وتمّ طردهم خارج المدينة. غير أن الأمور تدحرجت بين مؤيّد ومعارض، وغدت صراعاً طال كنائس الشرق كلّها. حاول قسطنطين معالجة الأمر بإرسال مبعوثين إلى الإسكندرية، غير أن المسألة لم تُحلّ والنزاعات بقيت على حالها، فقرّر بتّ القضية بمجمع يُعقد على مستوى الكنيسة جمعاء خوفاً على وحدة الإمبراطورية السياسية والمُجتمعية.
دعا قسطنطين إلى انعقاد مجمع مسكوني في نيقيا إذاً (أيار/مايو- تموز/يوليو) سنة 325، شارك فيه قرابة 300 أسقف معظمهم من الشرقيين، إضافة إلى ممثلين للبابا سيلفستروس. لم تكن أجواء المجمع خالية من التوتّر والحدّة، غير أن قسطنطين كان عازماً على حسم المسألة لمصلحة الكنيسة والامبراطورية على حدّ سواء. في 19 حزيران/يونيو أُنجز الأمر، وتمّت صياغة قانون الإيمان المُعلِن أن يسوع المسيح هو ابن الله المولود الوحيد من الآب، أي من جوهره. وأنه إله من إله، ونور من نور، وإله حق من إله حق، مساوٍ للآب في الجوهر. وحرم المجمع الّذين يقولون إنه كان زمان لم يكن فيه الابن موجوداً، وأن ابن الله هو مخلوق وقابل للتغيُّر. وافق المجتمعون على مضمون النّص باستثناء أسقفين ليبيين، فتمّ حرمهما ونفيهما مع آريوس. في الواقع، لم يكن من الممكن تفسير إيمان المسيحية بالابن وفق معتقدات الفكر اليوناني كما فعلت الآريوسية. ولا إلحاقه أو حصره بتوحيديّة العهد القديم المُطلقة، إنما وفق إيمان العهد الجديد وتقليد الكنيسة، وإن بمساعدة تعابير مقتبسة من الفلسفة اليونانية كما جاء في مصطلح Homoousios أي المساوي للآب في الجوهر.
صحيح أن الأزمة الآريوسية لم تنته ذيولها بين ليلة وضحاها، غير أن الكنيسة كرّست في نيقيا انطلاقة اللغة العقائدية لضبط مفاهيم الإيمان وحقائقه، بعيداً من الضلال. وأثبتت أنه يجب ألّا يُقلّصَ الوحيُ وألّا يتمّ إخضاعه لأي نُظم فلسفية. ومن جهة أخرى، أعلنت الكنيسة إيمانها بحقيقة المسيح أيضاً انطلاقاً من خبرة الخلاص التي عاشتها. فلو لم يكن يسوع ابن الله حقاً، ومساويا للآب في الجوهر، لما أمكنه أن يخلّصنا. ولا استطاع أن يجعل منّا أبناء الله وأحبّاءه. فهويته الحقّة، هي أساس خلاصنا وأساس بنوّتنا، وإلّا لصار الخلاص وهماً والبنوّة خيالاً. 
1700 سنة على مجمع نيقيا إذاً، مؤتمرات ستُعقد (مؤتمر النطرون المسكوني 24-28 تشرين الأول/أكتوبر المقبل)، احتفالات وزيارات تاريخية ستحدث (زيارة البابا فرنسيس المرتقبة مع بطريرك القسطنطينية برتلماوس الأول ليقيا -إزنيق في تركيا- أواخر أيّار/مايو). وكم يهمّنا في خضّم يوبيل الرجاء أن نعاود قراءة نيقيا تحت عناوين كثيرة: مسكونية وتاريخية، سياسية وراعوية، لاهوتية وفكرية!
لا بدّ لنا من المضيّ قدماً في ترسيخ قانون الإيمان النيقاوي في حياتنا وكنائسنا، لنعلن على الدوام أن يسوع هو الربّ، وهو المسيح، وهو الابن المساوي للآب في الجوهر.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق