نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
لماذا الفاشلون يُهينُون النثر؟ (1 من 2) - شبكة أطلس سبورت, اليوم الثلاثاء 18 مارس 2025 12:49 مساءً
شبكة أطلس سبورت - الذين خرجوا من الكلاسيكية، أَو يقَصِّرون عنها هاربين إِلى النثْر، يبرِّرون تَفَلُّتَهم من قواعدها الصارمة وأُصولها العارمة بتسمياتٍ لنثْرهم يستعيرونها من إِقليم الشعر: "قصيدة نثْر"، "شعر حديث"، "شعر منثور"، ... كأَنهم، لتكريس نثْرهم، يريدون رفعه إِلى مستوى الشعر. وهذا خطأٌ فادح فاضح، لأَن النثْر فن عظيم في ذاته بقدْرِما الشعر فن عظيم في ذاته.
البساطة الثرثارة لا تولِّد شعرًا
سنة 2020 نالت الشاعرة لويز غْلَكْ (1943-2023) جائزة نوبل للأَدب، منحَـتْها إِياها الأَكاديميا السويدية "على صوتها الشعري المتميِّز الذي، بجمالياه البسيطة، يحوِّل الحضور الفردي كونيًّا".
باردًا كان يومها، في الأَوساط المعنيَّة، استقبالُ خبر فوزها. البعض رأَى إِليه "صادمًا"، والبعض الآخر "مفاجئًا" عوَض أَسماء أُخرى كانت مرشَّحة أَو "مهيَّأَة" أَو "مستحقَّة".
أَنطون غطاس كرم: النثْر العالي
لا أُناقش، هنا، قرار الأَكاديميا ولا معايير اختيارها يومذاك. وبين "الفائزة" و"الشاعرة" أَتناول الأَخيرة. العلاقة، في النهاية، تكون مع النص الجدير (أَو غير الجدير) بالبقاء على الزمن.
دُرجَةُ الاستسهال
لدى صدور الخبر أَذكر أَنني قرأْتُ بعضَ نصوصها بإِنكليزيتها "البسيطة"، لعلِّي أَكتشف "الجماليا" فيها، فرأَيتُ بساطة مسطَّحة أَقربَ إِلى الكلام اليومي النثْري منه إِلى الشعري "المشغول". وهذا النوع من "النصوص البسيطة" الأَميركية عاينْتُ أَمثالها قبل سنوات، فترةَ كنتُ أُدرِّس في بعض جامعات الولايات المتحدة، وأَحضر لقاءَات شعرية مصغيًا إِلى أَميركيين يقرأُون "قصائد" لا تعدو كونها، في أَغلبها الأَقصى، كلامًا عاديًا يقوله أَيُّ إِنسان، أَو يكتبُه أَيُّ محرِّرٍ عاديٍّ في جريدة. ولمستُ فترتَذَاك كيف الشعرُ الأَميركي المعاصر لم يعُد "مشغولًا"، بل ينحو إِلى كونه كلامًا منسرحًا لا قواعدَ تضبطُه ولا نُظُم.
"الوهم" المسمّى "الإِيقاع الداخلي"
في أَحد أَحاديث غْلَك إثْر نيلها الجائزة، قالت: "أَنا أُحب الوزن، إِنما أُفضِّل الإِيقاع خفيًّا داخليًّا. فالتركيب الشعري يتكامل في إِيقاع موسيقي خفيّ يوَلِّد التأْثير الشعري".
أَنطون قازان: النثْر الجمالي المشغول
وراء هذا "التبرير" خفّةٌ في التعامُل مع الفن الشعري القائم على أُصولٍ ونُظُمٍ، لصعوبتها يهرب منها القاصرون إِلى "ابتداع" أَعذار باسم "الحداثة" و"الإِيقاع الداخلي" ورفْض الْتزام الوزن أَو اعتماد التقفية.
هذه الظاهرة الأَميركية أَسس لها الشاعر وُولت ويتْمان (1819-1892) بما سمَّاه "الشعر المنثور" و"التخلِّي عن الوزن والقافية إِلى التعبير الـمُرسَل كيفما جاء". وانتشرت هذه الموجة، وأَصدرت الشاعرة هاريـيت مونرو (1860-1936) مجلة "شعر" (شيكاغو - 1912).
انتقال "الموضة" إِلى لبنان
راج الشعر "المنثور" كتابةً منْسرِحَةً باسم الشعر، عاديةً باسم الحداثة، سهلةً باسم رفْض القديم. ووصلَت مفاعيله إِلى العالم العربي. أَسس يوسف الخال مجلة "شعر" (بيروت - 1957) مطابِقَةً، شكْلًا ومضمونًا، رديفتَها الأَميركية، فانفلتَت بين الشعراء العرب موجة "الشعر الحديث". وما زالت حتى اليوم دُرْجَةَ مَن لا يمتلكون أُسس النُظُم فـــ"يبتدعون" حجَجَ "الإِيقاع الداخلي" و"الكتابة غير المشغولة"، بما يرفضه حتى النثر في أَدنى مستوياته.
تلك الكتابةُ الرخوة إِهانةٌ لا للشعر وحده بل للنثر فنًّا عاليًا لا يقلُّ صعوبة عن الشعر.
تَعادُلُ الإِبداع بين القَصيدة والنَثيرة
يلجَأُ المعنيون إِلى تسميات "الشعر المنثور" و"قصيدة النثر" و"النثر الشعري"، كما ليرفعوا الكتابة النثرية إِلى مستوى الشعر، كأَنّ الشعر في لاوعيهم الجَماعي أَرفعُ مستوى من النثر. هذه إِهانةٌ النثرَ، وتسهيلٌ كتابةً رخوةً "تدَّعي" الشعر كي تُنَصِّع نصًّا يُقْنع المتلقّين لو نسبوه إِلى إِقليم الشعر دون النثر، كأَنَّ النثرَ درَجةٌ ثانية والشعرَ درجةٌ أُولى.
الشيخ عبدالله العلايلي: تنصيع النثْر
هذه الموجة من دُرْجَة الشعر "الحديث" بدأَتْ منذ أَخذ شعراء يخرجون على عمودية الشعر (صدرًا وعَجُزًا وقافيةً ورويًّا)، ويَبنون قصيدتهم مُدوَّرَةً على وحدة التفعيلة، وأَتى معظمهم بروائع فيها، مقابلَ غَثٍّ كثيرٍ من نمطٍ "مُعاصرٍ" سقَط في السرد النثري.
خروج حتى الانفلات
هذا الخروج على النُظُم تَواصَل انفلاتًا حتى "الشعر الحر" فـ"الشعرِ المنثور" المتفلِّت من إِيقاع كلِّ قاعدة عروضية، متحجِّجًا بـ"الإِيقاع الداخلي"، وَهْمًا لا تعرفه سيِّداتُ الإِيقاع: السمفونياتُ الخالدة التي "تفرض" ميلودياها ولا تنتظر "البحث" عنه داخليًّا بين النوطات.
الأَمير شكيب أَرسلان: أَمير البيان شعرًا ونثْرًا
قلتُ في مطلع هذا النص إِنّ في تلك التسميات الـمُدَّعَاة إِهانةً قيمةَ النثر، فيما هو فنٌّ عظيمٌ في ذاته لا يجوز ربطُه بفن الشعر لإِعلاء قيمتِه. فرُبَّ ناثر متمكِّن يُبدع في نَثِيرته أَبلغَ من أَيِّ شاعر، حتى إِذا حلا له أَن "يرتَكب" الشعر جاء شعره نظْمًا. ورُبَّ شاعرٍ متمكِّنٍ مبدعٍ في قصيدتِه إِذا كتَبَ النثْر جاء نثرُهُ مسطَّحًا عاديًّا دون شعره. من هنا أَن النثْر فضيحةُ الشاعر، كما الشعرُ فضيحةُ نظَّامين "يَتلَطَّون" خلْف تقطيع الوزن وتلميع القوافي وتطريب الإِلقاء، فيما أَبياتهم مرصوفةُ التراكم عموديًا وليس فيها بيتُ شعرٍ واحدٌ ذو إِبداع.
التتمة في المقال التالي
0 تعليق