تُعد حرب المئة عام بين الشراكسة والإمبراطورية الروسية (1763-1864) واحدة من أطول وأعنف الحروب في التاريخ الحديث. خاض الشراكسة نضالًا مريرًا ضد التوسع الروسي في القوقاز، مقدمين مقاومة شرسة استمرت قرنًا من الزمن، إلا أن الحرب انتهت بمأساة وطنية تمثلت في التهجير القسري والإبادة الجماعية. وعلى الرغم من مرور أكثر من 150 عامًا، لا تزال هذه المأساة محفورة في الذاكرة الجماعية للشعب الشركسي.
اليوم، تتكرر أوجه الظلم التاريخي في فلسطين، حيث يعاني الشعب الفلسطيني من الاحتلال، التوسع الاستيطاني، والتهجير القسري، في ظل نضال مستمر لأكثر من مئة عام. ومع ذلك، فإن الظروف العالمية تغيرت، ووسائل المقاومة تطورت، مما يجعل الفلسطينيين في موقع أكثر قدرة على التأثير والوقوف في وجه مخططات الاحتلال. وإذا كان الشراكسة قد واجهوا روسيا وحدهم في القرن التاسع عشر، فإن الفلسطينيين اليوم يعيشون في عالم مترابط، تدعمه وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، وتحكمه قوانين دولية تمنحهم أدوات جديدة في نضالهم ضد الاحتلال.
الخلفية التاريخية: بين القوقاز وفلسطين
قبل اندلاع حرب الشراكسة مع الروس، كانت منطقة القوقاز موطنًا للعديد من الشعوب المستقلة، بما في ذلك الشراكسة الذين عاشوا في مجتمعات زراعية وقبلية متماسكة. مع بداية التوسع الروسي في القرن الثامن عشر، بدأ الاحتلال بفرض سيطرته على الأراضي الشركسية، مما أدى إلى اندلاع مقاومة شرسة دامت قرنًا من الزمن. لم يكن الشراكسة يواجهون روسيا فحسب، بل كانوا أيضًا عالقين في صراع القوى الكبرى بين روسيا والدولة العثمانية، مما صعّب موقفهم العسكري والسياسي.
في القرن العشرين، وجدت فلسطين نفسها في قلب صراع استعماري جديد، إذ جاء وعد بلفور عام 1917 ليضع الأساس لإنشاء دولة إسرائيل في 1948، متجاهلًا السكان الفلسطينيين الأصليين. وكما قاوم الشراكسة الهيمنة الروسية، قاوم الفلسطينيون الاستعمار البريطاني، ثم الاحتلال الإسرائيلي، مؤكدين تمسكهم بأرضهم وحقوقهم الوطنية.
المقاومة: بين الشراكسة والفلسطينيين
1- المقاومة العسكرية والشعبية:
قدّم الشراكسة نموذجًا فريدًا في المقاومة، حيث خاضوا حروبًا طويلة ضد الجيش الروسي المتفوق عسكريًا، مستفيدين من التضاريس الوعرة وخبرتهم في القتال غير النظامي. ومع ذلك، كانت الإمبراطورية الروسية تملك موارد ضخمة ودعمت تقدمها بموجات متتالية من الجنود والمستوطنين، مما جعل الهزيمة في النهاية أمرًا حتميًا.
أما الفلسطينيون، فقد واجهوا الاحتلال بوسائل مختلفة عبر العقود، بدءًا من المقاومة المسلحة، إلى النضال السياسي، وحتى المقاومة الشعبية. وبعد نكبة 1948 ونكسة 1967، تطور شكل المقاومة ليشمل الانتفاضات الشعبية، والعمل الدبلوماسي، والاستفادة من الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي لكسب التأييد العالمي. وبفضل تغير الظروف العالمية بعد الحرب العالمية الثانية، أصبح للفلسطينيين القدرة على إيصال صوتهم إلى العالم، وهو ما لم يكن متاحًا للشراكسة في القرن التاسع عشر.
2- التهجير القسري والتغيير الديمغرافي:
عانى الشراكسة من حملة تهجير ممنهجة، حيث أجبر مئات الآلاف منهم على مغادرة وطنهم إلى الدولة العثمانية، وتعرضوا لمجازر وتطهير عرقي أودى بحياة أعداد هائلة منهم. بالمثل، تعرض الفلسطينيون لتهجير قسري خلال نكبة 1948، حيث طُرد أكثر من 700 ألف فلسطيني من أراضيهم، واستمر التهجير في العقود اللاحقة من خلال الاحتلال العسكري والاستيطان.
إلا أن الفلسطينيين تمكنوا من الحفاظ على هويتهم الوطنية، ولم يندمجوا بالكامل في المجتمعات التي لجأوا إليها، بل استمروا في المطالبة بحقوقهم. وعلى عكس الشراكسة، الذين فقدوا وطنهم بالكامل، لا يزال الفلسطينيون يقاومون على أرضهم، ويواصلون نضالهم للحفاظ على وجودهم الوطني.
3- التأثير الدولي والاعتراف بالحقوق:
في القرن التاسع عشر، لم يكن المجتمع الدولي كما هو اليوم، ولم تكن هناك منظمات حقوقية أو قوانين دولية تحمي الشعوب المضطهدة. واجه الشراكسة مصيرهم وحدهم دون دعم خارجي حقيقي، ولم تكن لديهم وسائل لنقل قضيتهم إلى العالم. أما الفلسطينيون، فقد استفادوا من التغيرات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية، حيث أصبح للقضية الفلسطينية اعتراف دولي واسع، وأصبح الاحتلال الإسرائيلي تحت المجهر العالمي، ما يفرض قيودًا على سياسات التوسع والتهجير.
النتائج والتداعيات: مأساة أم مقاومة مستمرة؟
1- الإبادة الجماعية مقابل الصمود:
تعرض الشراكسة لحملة إبادة ممنهجة أدت إلى محو وجودهم القومي في وطنهم الأصلي. وعلى الرغم من استمرارهم كشعب في الشتات، إلا أن أثر الكارثة كان مدمرًا، حيث فقدوا السيطرة على أرضهم وتغيرت التركيبة السكانية بشكل كامل لصالح المستوطنين الروس.
أما الفلسطينيون، فرغم التهجير والاستيطان، فإنهم تمكنوا من الحفاظ على هويتهم، واستمروا في النضال، مما منع الاحتلال من فرض واقع دائم كما حدث في القوقاز. وبفضل وسائل الإعلام، والدبلوماسية الدولية، والوعي الشعبي، لم تعد إسرائيل قادرة على تنفيذ مشاريعها التوسعية بنفس السهولة التي نفذتها روسيا في القوقاز.
2- التغيير الديمغرافي والمقاومة السياسية في القوقاز:
أدى التهجير القسري إلى تغيير ديمغرافي نهائي، حيث استوطن الروس في الأراضي الشركسية، ولم يعد للشراكسة فرصة للعودة. أما في فلسطين، فإن التوسع الاستيطاني لا يزال يواجه مقاومة شعبية وسياسية، ولم تتمكن إسرائيل من القضاء على الوجود الفلسطيني كما فعلت روسيا مع الشراكسة.
3- الذاكرة التاريخية واستمرار النضال:
لا يزال الشراكسة يحيون ذكرى تهجيرهم، لكن قضيتهم فقدت زخمها السياسي نتيجة لمرور الزمن وغياب وسائل التأثير في الساحة الدولية. في المقابل، استطاع الفلسطينيون إبقاء قضيتهم حية لعقود، وجعلوها محورًا للصراعات الإقليمية والدولية، مما يمنحهم فرصة حقيقية للاستمرار في النضال حتى تحقيق حقوقهم.
عالم جديد، مقاومة جديدة
إذا كانت مأساة الشراكسة قد انتهت بالتهجير والإبادة، فإن الفلسطينيين اليوم يكتبون فصلًا مختلفًا في التاريخ. لقد تعلموا من تجارب الشعوب الأخرى، واستفادوا من التغيرات العالمية، واستطاعوا تحويل قضيتهم إلى قضية رأي عام دولي لا يمكن تجاهلها. ومع تقدم وسائل التواصل الاجتماعي، وتغير موازين القوى، لم يعد من الممكن تكرار سيناريو القوقاز في فلسطين.
إن التاريخ قد يعيد نفسه في أوجه عديدة، لكن الظروف العالمية والإرادة الشعبية تصنعان الفارق. الشراكسة قاتلوا ببسالة، لكنهم واجهوا قوة عظمى في زمن لم يكن يمنح الشعوب المستضعفة أي فرصة للنجاة. أما الفلسطينيون، فقد وجدوا في العصر الحديث أدوات جديدة جعلت من المستحيل محوهم أو القضاء على هويتهم. واليوم، بات واضحًا أن الفلسطينيين لن يكونوا ضحية جديدة لنكبة مشابهة، لأنهم تعلموا من الماضي، ويخوضون نضالهم بوسائل وأساليب تجعل انتصارهم يومًا ما أمرًا ممكنًا.
كابتن اسامه شقمان
0 تعليق